الولادة المسيحية للقومية
في سعينا في هذه المقالات للبحث الأصول التاريخية للعالم الحديث لابد ان نقف امام القومية التي تعتبر اهم عنصر ميز الدولة الحديث عند ولادتها من الامبراطوريات والامارات القديمة.
يمكننا ان نعرف مفهوم القومية انه إحساس يتولد عند مجموعة عرقية او لغوية او دينية بتميزهم التاريخي الذي يجعلهم قبيلة خاصة لا يمكنها ان تخضع لأي حكم الا الحكم الذاتي لنفسها وبالتالي ينبثق عن القومية مفهوم الدولة القومية او الامة الدولة [nation state].
أحد الأسئلة التي تواجهنا في هذا البحث هو متى ولدت القومية؟
يمكننا ان نرجع في التاريخ ونعثر على الكثير من حالات الوعي بالتميز عند الأمم الغابرة من السومريين الذين تكلموا عن بذرة واحدة في أولاد سومر او الفراعنة في حديثهم عن الاسيويين [كل الشعوب شرق مصر] لكن لا يوجد اقوام ظهر عندهم مفهوم العرق والقومية بشكل متميز مثل الاغريق.
في كتابه التاريخ يقول المؤرخ اليوناني هيرودوت على لسان الأثينيين:
فاعلموا إذن أن ليس في العالم ما يكفي من الذهب أو الأرض لنرتضي لأنفسنا الانضمام إلى صف العدو المشترك واستعباد بلاد الاغريق...والواجب ينأى بنا عن أن نصافح اليد التي أتت بهذا الإثم. وهناك أمة الإغريق هذا الجامع من الدم واللغة والمعابد والطقوس وعاداتنا المشتركة فإن خانت أثينا هذا كله لما كانت جديرة بثناء. [1]
يمكننا القول ان الشعور بالقومية ولد في أوروبا بشكل المعاصر قبل ان يولد في أي مكان اخر وهذا لعدة أسباب
في كتابه بناء الأمم يوضح التاريخي ادريان هايستنغ عوامل أساسي جعلت من أوروبا منبع لمفهوم القومية واهم هذه العوامل هو المسيحية نفسها .
كانت المسيحية تساهم بشكل كبير في تشكيل الوعي القومي عند تلك الأمم والقبائل والامارات الصغيرة التي تملئ القارة الأوروبية ، لم يكون لدى المسيحيين لغة مقدسة وبالتالي كانوا يترجمون الانجيل والكتاب الأخرى الى شتى اللغات المختلفة واهم عنصر من عناصر ولادة الشعور القومي هو وجود اللغة المكتوبة .
"ان السرعة استعمار اللغات الأوروبية من الكتاب المسيحيين مثيرة للعجب ويلزية وايرلندية وانكليزية والمانية وفرنسية ودنماركية والباقي وهذا كله ينبع من طبيعة المسيحية ، غياب أي كتابات مباشرة كتبها عيسى والالتزام بعالمية الدين والذي يظهر بوضوح في العهد الجديد عبر الوعد ان يصنع حواريين من كل الأمم [فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ.][2] وكذلك النص في سفر اعمال الرسل والذي يمكن اعتباره الأسطورة التأسيسية للكنيسة تشدد على تنوع اللغات فيقول النص
[ فَرْتِيُّونَ وَمَادِيُّونَ وَعِيلاَمِيُّونَ، وَالسَّاكِنُونَ مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ، وَالْيَهُودِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَبُنْتُسَ وَأَسِيَّا
وَفَرِيجِيَّةَ وَبَمْفِيلِيَّةَ وَمِصْرَ، وَنَوَاحِيَ لِيبِيَّةَ الَّتِي نَحْوَ الْقَيْرَوَانِ، وَالرُّومَانِيُّونَ الْمُسْتَوْطِنُونَ يَهُودٌ وَدُخَلاَءُ،
كِرِيتِيُّونَ وَعَرَبٌ، نَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا بِعَظَائِمِ اللهِ!».] [3]"
على الرغم من ان الإسلام و المسيحية كلاهما يعتبران انفسهما امتداداً للديانة التي نزلت على بني إسرائيل الا ان المسلمين لم يتأثروا بسيرة بني إسرائيل ذلك التأثر الكبير بل كان اهتمام المسلمين الأول بقصصهم هو في محاولة تفسير الإشارات القرآنية الى سيرة بني إسرائيل بدون اعتبارهم قدوة او اعتبار حياتهم كدرس عملي يجب ان يتبع في محاولة صنع مجتمع اقرب الى السيرة التي يبتغيها الله لخلقه في الأرض.
كانت المسيحية تشير باستمرار الى حياة بني إسرائيل ولعل ذلك راجع الى قصر ما يمكن استخراجه من قصة المسيح نفسه في العهد الجديد، هذه الإشارة المستمرة الى حياة بني إسرائيل انطبعت في الاذهان فكما ان بني إسرائيل قوم حباهم الله بأرض وملك ونظام سياسي فكذلك أصبحت صورة المجتمع المسيحي الصحيح وبهذا انتشر بين الأوروبيين الشعور القومي ولو في اطار ديني.
"لقد كان العهد القديم مثالاً قوية يضغط على الخيال السياسي للشعوب المسيحية . نرى هذا الضغط في فرنسا العصور الوسطى وانكلترا في القرن السابع عشر ولكن من المثير للعجب والكاشف لعمق التأثير هو ان روسو النبي العلماني للقومية الجديدة عندما كان يوضح للبولنديين كيف يكونوا امة كان يضرب المثل بموسى على انه المثال الذي يحتذى به في بناء الأمم ."
ثم لحق كل هذا العامل الأخير والاقوى وهو ولادة كنائس مخصصة في بلدان وقوميات مخصصة بدايتها مع الكنيسة الارثذوكسية في أوروبا الشرقية ثم مع البروتستانت في أوروبا الغربية والشمالية
"الاستقلال الديني التام للكنائس القومية كان اشد العوائل قوة وأكثرها استمراراً في تشجيع القومية لأنه حفز بشدة ان يربط الناس بين العهد القديم للرب الذي يضع فيه شروط الامة الواحدة والعهد الجديدة الذي يضع شروط كنيسة واحدة وبالتالي يسهل ان يربط المعاصر كنيسته وقوميته بهذين المفهومين . "
---
[1] التاريخ لهيرودوت ص642
[2] انجيل متى 28/19
[3] [اعمال الرسل 2 /9]
The Construction of Nationhood: Ethnicity, Religion, and Nationalism Wiles Lectures; 1996 Hastings, Adrian